دكتور أحمد نوفـل
نكتب والنشوة تملأ جوانحنا، وقلوبنا تصفق جذلى، إذ اكتشفنا، فجأة، أنّا أمة عزيزة لها سيادة كاملة غير منقوصة، ولا تظنوا هذا الكلام هذراً، وقولاً بلا رصيد، لا بل هو قول يتجلى في مصداق عملي واقعي سلوكي تطبيقي فعلي. ألم نمنع قافلة شريان الحياة من العبور من نويبع، وأظهرنا عناداً في تحقيق هذه السيادة، وعدم تنازل، ولا تراجع، ولا مهاودة، ولا مساومة، ولا بيع، ولا تفاوض، ولا خلال. وأسندنا ظهورنا إلى الحائط وسرحنا في البعيد، عن مزيد ومزيد من تجليات العزة، وتألقات السيادة، وتمظهرات العظمة، وتحققات القوة، أيه.. ما أجمل الشعور بالامتلاء من هذه المعاني، وها هي بعد فقد وغياب وطول حنين تعاود الرجوع إلى أوطاننا ودولنا.. ما أحلى الرجوع إليه!
يا سلام، يا جدعان، إنه شعور لا يوصف، يعجز القلم، وينقطع البيان، ويضيق الصدر، ولا ينطلق اللسان ولا ينطق مع شدة الموران وانفعال الوجدان. إنه شعور السيادة! والله زمان.. والله زمان.. يا سيادة.
طال الشوق، واشتد الحنين، لكن لم نفقد الأمل ولم نقنط ولم نيأس ولم نفقد البوصلة، بأنّا سنرجع يوماً، وترجع إلينا السيادة الغائبة (بالغين).
ولم يخب الرجاء، بل جاء الوقت جاء، وحلّت وهلّت وتجلّت.. السيادة يعني. هل سرحتم والا إيه؟ المهم، من كان يظن أن العرب بلا سيادة فليخسأ.. "وفشر" أيوه يا كايدهم يا خويا. أيوه يا سيد. هات كمان وكمان من السيادة القعساء والعزة العلياء وطِرْ بنا نحو العلاء، فداك أبي وأمي والغالي والرخيص والأنفس والنفيس. هوّ احنا في ذاك اليوم؟! إن يوماً من أيام السيادة يساوي عمرنا كله.. وقد قضيناه ونحن عبء وزيادة، لكن لم يخب الرجاء كما سلف، فها نحن تهدأ أشجاننا وأحزاننا وتسكن ثائرات قلوبنا حين نغرق في دافئات المنى ونرى بأم أعيننا السيادة وزيادة..
هذا يوم فرح العرب وعرس العرب وهناءة العرب وعز العرب وسيادة العرب.. ودقي يا مزيكة!
الحمد لله، لقد اطمأن البال فعلمنا في الحال أنا نملك قرارنا، صح يا رجال؟! هذا القرار المستقل.. ونمارس حقنا في ضبط حدنا. فلا يعبر حدودنا أحد إلا بموافقتنا وقرارنا. فإذا قلنا ارجع رجع، أو لا تدخل فمعناه ألا تدخل. وتصوروا لتقريب الصورة لو أن وفداً سياحياً فرنسياً جاء يزور الأردن فحطت طائرتهم الكونكورد (قبل إخراجها من الخدمة بسبب التقادم.. تقادم الطيارة لا الطاقم) المهم حطت الطائرة في مطار العقبة، فقلنا لهم لممارسة السيادة، عودوا إلى باريس ثم ادخلوا الأردن من مطار عمان. أرأيتم الصورة؟ إنها ليست هزلية. أليس كذلك؟
أليست "حدود" الدول معابر دولية يحق لكل عابر أن يعبر منها، فيمكن أن تعبر إلى أمريكا مثلاً، وهي دولة ذات سيادة، براً أو بحراً أو جواً، عبر نيويورك أو عبر ديترويت.. أو عبر ميامي أو عبر أي معبر.
لكن السيادة العربية الكاملة تأبى إلا أن تتجلى في مظهر فج صغير وطفولي وعنيد وعلى بعضنا فقط. ولو أمر البنك الدولي (لا أمريكا فتلك قصة أخرى) أياً من دولنا ألا تزرع القمح ولا تزرع القطن لامتثلت صاغرة. ولو أمرت جمعية نسوية في أي بلد غربي أن نسن قوانين تتعلق بالمرأة لامتثلنا ونسينا كل السيادة. وعندما أمر مؤتمر (هابيتات) أي السكان بسن قوانين تتعلق بالزواج المثلي، لم نسمع همهمة بالرفض ولا تلميحاً ولا تصريحاً، بل إن بعض الدول الإفريقية العربية وعدت خيراً! فلماذا لا تستحضر السيادة إلا في مظاهر الخنق والتضييق والحصار والتزنيق؟
لماذا لا تتذكرون سيادتكم أمام من هربوا المخدرات في أكبر صفقة مخدرات عبر التاريخ (يوسف طحان اليهودي) الذي أطلق سراحه بعد أيام، ولحسنا حكاية السيادة! لماذا أطلق سراح الذي نقل الإيدز إلى ثلاثمئة طفل بعد أن "اعتدى" عليهم، وقال في المطار: إني عائد ثانية؟ هل تذكرون؟ أين كانت السيادة؟! لماذا أطلق سراح عزام عزام؟ وأين كانت السيادة؟ لماذا لم تتجل السيادة بأبهتها وأبهى حلتها والأقصى ينتهك كل يوم؟ لماذا لم نر السيادة "يا سادة" وحدود رفح تقصف بل تحرث حراثة بالقصف ويقتل بعض الجنود وحرس الحدود أين غابت السيادة يا سيادة؟
يا أسيادنا، وعلى رأي إخواننا.. "دستور يا أسيادنا.." إننا نبكي دماً على يوم نرى فيه سيادتكم.. لكن في محلها الصحيح.
هل سيادتكم لا تتجلى إلا في الجدار الفولاذي؟! وأين السيادة وقد "طبّلت" أرض مصر بفعل التخريب اليهودي؟ أين السيادة وقد قتلت ملايين الدواجن في أسوأ تسريب لأغذية وأدوية فاسدة؟
أين السيادة وإخوانكم في غزة وهي طيلة التاريخ الذي وعيناه قطعة من مصر تصب عليها طيلة ثلاثة أسابيع كاملة حمم الموت والدمار بأسلحة محرقة؟ ألم تتذكروا السيادة يومها؟
يا أخ أحمد يا أبو الغيط ليتك بقيت تعمل في الغيط ولم تشتغل في السياسة! ولا أنسى في ختام هذه المقالة في زيارة لي لبلد عربي، وكان يقف أمامي واحد من الشقران، قدّم جوازه لسيادة الموظف، فختم الجواز بابتسامة استغرقت مساحة وجهه. فلما قدمت جوازي ألقاه جانباً، وانتظرت دقيقة فلم يتحرك، فقلت: أعطني جوازي، وأخبر من ينتظروني من جامعة بلدكم أنني عدت على نفس الطائرة، لست أحمل "شوالاً" لأجمع فلوسكم، فما جئت إلا لمحاضرة ليوم واحد. فقال: البلد بلدك يا أستاذ. فقلت: لم لم تعاملني كما تعامل الشقران بالاحترام؟ ألأني أسمر مثلك ألقيت جوازي؟
هكذا هي السيادة العربية، يا أسيادنا أصحاب السيادة هل وصلت الرسالة لسيادتكم أم أن السيادة غائبة، وتلبسون سيادة كاذبة بدل السيادة الغائبة؟!