هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف

هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ولما نالت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم ما وصفناه من الأذى ، خرج إلى الطائف يلتمس النصر من ثقيف ويرجو أن يقبلوا منه ما جاءهم به من عند الله عز وجل .


ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ ساداتها، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم من أجله، فردوا عليه ردا منكرا، وفاجؤوه بما لم يكن يتوقع من الغلظة وسمج القول. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وهو يرجوهم أن يكتموا خبر مقدمه إليهم عن قريش، فلم يجيبوه إلى ذلك أيضا. ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أن رجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدميان، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شج في رأسه عدة شجاج ، إلى أن وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بستان لعتبة بن ربيعة، فرجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد عليه الصلاة والسلام- وقد أنهكه التعب والجراح - إلى ظل شجرة عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه . فلما اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الظل، رفع رأسه بهذا الدعاء: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة ألا بك).


ثم أن ابني ربيعة – صاحبي البستان – تحركة الشفقة في قلبيهما ، فدعوا غلاما نصرانيا لهما يقال له – عداس- فأرسلا إليه قطفا من العنب في طبق، فلما وضع عداس العنب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: كل ، مد الرسول يده قائلا: بسم الله . ثم أكل ، فقال عداس متعجبا : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ومن أي البلاد أنت ؟ وما دينك ؟ قال: نصراني ، وأنا رجل من أهل نينوى – قرية بالموصل - ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ فقال عداس وما يدريك ما يونس بن متى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك أخي ، كان نبيا وأنا نبي .. فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه .


قال ابن إسحاق ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعا إلى مكة ، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي ، فمر به النفر من الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى ، فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا .


وقد قص الله خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم في قوله : ( وإذا صرفنا لك نفرا من الجن يستمعون القرآن- إلى قوله - ويجركم من عذاب أليم- ، وقوله – قل أوحي ألي أنه استمع نفر من الجن ) ..

ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة يريد دخول مكة . فقال له زيد : كيف تدخل عليهم يارسول الله وهم أخرجوك ؟ فقال : يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وأن الله ناصر دينه ومظهر نبيه. ثم أرسل رجلا من خزاعة إلى مطعم بن عدي يخبره أنه داخل مكة في جواره ، فاستجاب مطعم لذلك، ودعا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة .



******

إذا تأملنا في هذه الهجرة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم . وما انطوت عليه من العذاب الواصب الذي رآه، ثم في شكل عودته إلى مكة نستخلص الأمور التالية:

أ- أن ما كان يلاقيه النبي صلى الله عليه وسلم من مختلف ألوان المحنة، لاسيما هذا الذي رآه في ذهابه إلى الطائف، إنما كان من جملة أعماله التبليغية للناس. فكما أنه جاء يبلغنا العقيدة الصحيحة عن الكون وخالقه، وأحكام العبادات والأخلاق والمعاملات، كذلك جاء يبلغ المسلمين ما كلفهم الله به من واجب الصبر، ويبين لهم كيفية تطبيق الصبر والمصابرة اللذين أمر بهما في قوله : (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا..)..
فكما علمنا عليه أزكى صلوات ربه بالقيام بالعبادات كقوله: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، وقوله كذالك: ( خذوا عني مناسككم) ... وبناءا على هذا المبدأ نفسه قاسى أَمَرَّ أنواع المحن في سبيل الدعوة، ليقول بلسان حالِه لجميع الدعاة من بعده : اصبروا كما رأيتموني أصبر. وليبين أن الصبر ومصارعة الشدائد من أهم مبادئ الإسلام التي بعث بها إلى الناس كافة .

وما كان سبب ارتفاع صوته صلى الله عليه وسلم بالشكوى والدعاء استعظاما لما ألَمَّ به من المحن والمشاق، ولا مللا من طول المحاولة التي لم تأتي بنتيجة، ولكنه كان بمثابة تعبده لله وتضرعه له والتذلل على بابه تقربا وطاعة .

وللمحن والمصائب حكم، من أهمها أنها تسوق صاحبها إلى باب الله تعالى وتلبسه جلباب العبودية له . فليس إذا بين الصبر على المكاره والشكوى إلى الله تعالى أي تعارض، بل الواقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمنا في حياته كلا الأمرين .

فكان بصبره الشديد على المحن يعلمنا أن هذه هي وظيفة المسلمين عامة والدعاة إلى الله خاصة. وكان بطول ضراعته والتجائه إلى الله تعالى يعلمنا وظيفة العبودية ومقتضياتها .

ومن طبيعة النفس البشرية أنها تشعر بلذة النعيم ، وتشعر أيضا بألم العذاب . والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بَشَر وله نفس الإحساس والشعور ، ولكنه صلى الله عليه وسلم مع هذا يفضل الضر مهما كانت آلامه، على النعيم مهما كانت لذائذه إرضاءا لوجه ربه وأداءا لحق العبودية عليه. ولا ريب أن هذا هو مناط استحصال الثواب وظهور معنى التكليف للإنسان .


ب - إذا تأملت قصة هجرته إلى الطائف صلى الله عليه وسلم وجدت أن ما وجده من الأذى قد يكون قاسيا شديشا ، بيد أنك واجد ردا إلاهيا على ذلك الإيذاء – وهذا نلمسه دائما وفي كل نائبة ألمت به صلى الله عليه وسلم – كي يكون في ذلك مواساة وسلوى للرسول صلى الله عليه وسلم. وكي لا يجتمع في النفس من عوامل التألم والضجر ما يدخل إليها اليأس. وهذا يبدو واضحا في القصة التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم مع الرجل النصراني (عداس) حين جاء إلى النبي بطبق العنب ، وحين قبل رأس النبي ويديه ورجليه عندما علم منه أنه نبي الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت النصرانية تعانق الإسلام وتعزه . إذ الدين الصحيح من الدين الصحيح كالأخ من أخيه . غير أن الأخوة الدم ، ونسب الدين العقل . كما نلاحظ أيضا تصرف ابنا ربيعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ونعلم أنهما من ألذ أعداء الإسلام ولطالما سألوا أبا طالب أن يكف عنهم النبي أو يخلي بينهم وبينه، فانقلبت الغريزة الوحشية إلى معناها الإنساني الذي جاء به هذا الدين .

ت – وفيما كان يفعله زيد بن حارثة رضي الله عنه ، من وقاية للرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، من حجارة السفهاء ، نموذج لما ينبغي أن يكون عليه حال المسلمين بالنسبة لقائد الدعوة ، من حمايته له بنفسه ودفاعه عنه وإن اقتضى ذلك التضحية بحياته .

هكذا كان حال الصحابة رضوان الله عليهم بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ولئن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم غير موجود اليوم بيننا ، فلا يتصور الدفاع عنه على النحو الذي كان يفعله أصحابه رضي الله عنهم، فإن ذلك يتحقق على نحو آخر هو أن لا نضن على أنفسنا بالمحن والعذاب في سبيل الدعوة الإسلامية وأن نسهم بشيء من تحمل الجهد والمشاق التي تحملها النبي عليه الصلاة والسلام. .
على أنه ينبغي أن يكون هنالك قادة للدعوة الإسلامية في كل عصر وزمن، يخلفون قيادة النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة، فعلى المسلمين كلهم أن يكونوا من حولهم جنودا مخلصين لهم، يفدونهم كما كان شأن المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ث- فيما قَصَّه علينا ابن إسحاق من استماع النفر من الجن إليه، وهو يصلي من جوف الليل بنخلة، دليل على وجود الجن وأنهم مكلفون ، وأن منهم من آمن بالله ورسوله ومنهم من كفر ولم يؤمن. وقد ارتفعت هذه الدلالة إلى درجة القطع ، بحديث القرآن عنهم في نصوص قاطعة صريحة، كالآيات التي في صدر سورة الجن ، وكقوله تعالى في سورة الأحقاف: (وإذا صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن) إلى قوله تعالى (ويجركم من عذاب أليم..) .

ج- ما موقع كل ما رآه النبي في هجرته إلى الطائف وما أثرما عاناه على نفسه ؟
يتضح الجواب على هذا فيما قال النبي عليه الصلاة والسلام لزيد بن حارثة: ( كيف تعود يا رسول الله إلى مكة وهم أخرجوك ؟ فقد أجابه في ثقة واطمئنان قائلا: (يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا ، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه ) .

وإذا فإن كل ذاك الذي رآه وعاناه في الطائف، بعد القسوة والعذاب اللذين رآهما في مكة، لم يكن له أي تأثير على ثقته بالله تعالى أو على قوة العزيمة الإيجابية في نفسه .

ولا والله ، ليست هذه عزيمة بشر آتته الطبيعة مزيدا من التحمل أو قوة الإرادة. ولكنه يقين النبوة كان ثابتا في قلبه صلى الله عليه وسلم، فهو يعلم أنه أنما ينفد أمر ربه ويسير في الطريق التي أمره الله أن يسير فيها، ومما لا ريب فيه أن الله بالغ أمره ، وقد جعل لكل شيء قدرا .

والفائدة التعليمية لنا في هذا الأمر ، هي أن لا تصدنا المحن والعقبات التي تكون في طريق الدعوة عن السير، وأن لا تبث فينا روح الدعة والكسل، ما دمنا نسير على هذا من الإيمان بالله وتوفيقه فمن استمد القوة من الله جدير به أن لا يعرف لليأس والكسل معنى ، إذ ما دام هو الآمر ، فلا شك أنه هو الناصر أيضا .