هو حوار تشخيصي لحالنا امتنا المتأكل ، صغناه وفق رؤيتنا التوفيقية لما نراه ونحسه ، لو أن باديس العظيم مُــــــــكن من العودة مرة اخرى إلى عالمنا المتداعي ماذا تراه يقول :
فاقرأو محطات هذا الحــــــــوار وأحكموا :
[ الراوي ] :
يبدأ الراوي في سرد تاريخ الجزائر وإبراز محطاته الفاصلة ، قبل الحوار المسرحي ، الذي من خلاله يتم استدعاء ابن باديس من قبره ، وتمكينه من مكاشفة حال الأمة الآنية ، وقد استردت سيادتها وعزتها المسلوبة قسراــ آنفا ــ من قبل الغاشم الفرنسي ، ليرى ويعاين ويستطلع حال النشء الجديد الوريث لجيل باديس الجد .
ــ يُــــــحكى أن الوطن المسلوبَ ، قَضَى رَدْحًا من زَمَن وهو أسير النكبة والعار ، ومَضَى العُمْرُ وهو يصرُخ ويـَــــــئِنُ لقبضَةِ ذاك الجبار ، وتعالت أصواتُ العويل ، وتتابعت الصََرخات ، فحَمل الأبناء المعاول والفؤوس ، وشَحَذوها لساعة الحسم ، وتفَرقوا في الشِعَاب ، وترصَدوا الغاشم في كل الزوايا ولاحقوه حتى في التـــَــكــــــَايا ، وحَاولوا جاهدين استئصال شافة الفاسدين والباغين ، وقَبلهم المارقين ، وأنساهم َضيْق المجال الإجهازَ على بقية أبناء المُــندسين من شاكلة فلان وعلان ...
ــ وأخذت وتيرة التصعيد والتنفير تعرف طريقا في الصفوف ، وتوافد الأتباع وكثـُــــر الأصحاب ، وامتلاءت الساحات بالذائدين عن الِحمى والأعراض ، واستبسل الأحرار استبسال الحُسين في واقعة كر بلاء ، وخالد في يرموك الفخر ، و صلاح الدين في حِطِين العز وسعد في قادِسية المجد ، وكانت الجُولات الداميات ، المُفحمات لسَطوة المارد وعُتو العَاتي ، فأيَقن النمرود أن أوان دَق العُنق قد آن ، وأن القَيامة قد أِزفت ، فاستجمع هَياكله وعدَّ جُنده ، وأحْصى عَدَده ، وأطلق زفيره في الأرجاء ، أني هاهنا مِسكين جبان ، لا أقدر على مُقارعة جند الله في الميدان ، فأمِدوني يا حِلف البُغاة بأعوانكم وفِلذات أكبادكم ، وكُلَ من تثقون في ولائـِـــــه وعَطائه ، قبل أن تقتلع مَعَاوِلُ الاجتثاث رأسي ، وتُــــــعَلق على خِلاف أطرافي ، فإني ورب القدس شريد في هذي الديار ، هالك لا محالة ، إذا جَدَّ جِدُّ الوغى في كل الأمصار ، وسَـــــــــــــتُسمع أنـــــــَّـــــاتي العالية لفِيحاء الغَاب ، وتـُـــــــترك بقايا الجسد العاري لذواتِ الناب ، من وحوش وسباع وكلاب .
سُمعت الصرخات وعــَـــــويل الطلقات ، فجاءت زبَانية الموت إلى حتفها مـُـــــخَيرة ، وراحت تَصْقُلُ السيف ولا تدري أن الطعنات ووقع الضَربات هي َصنِيع ذات الحديد .
انتشر الأزلام في ساحات الميدان وعمــــــــَّروا المَكان قِيحًا وَصديدًا وآثام ، وأعْيَاهم الــــــجُبن أن يــــُـــــقارعوا الأسُود في مغَاور البُطولة والإقْـــــــدام ، فَركنوا إلى الصَغار وإلى الدنية من أفعال الصِغار، وعَادوا القُهْقَرى يُطاردون الِولدان والمُقعدون والمُقعدات ، من الذين سقط عنهم التكليف ، وخطَّ المَشيب على كواهلهم ثوبَه وعَجْزَه ، فأرُوهم الويلات ونـــَـــــكَّلوا بهم ، نِكايةً بالأبناء الأبطال الذين قهروهم في الوغى ، وحَتى يَضعــــُف المجاهد الِصنديد ، إذا ما تَرامى إلى مَسَامعه ، أن صِلته بالأحياء من أقربائه قد توارت ، وتلاشت أسماء أهله وناسه ، مِن على خارطة المكان والزمان ، و أزاحُوا كُلَّ عناصر مَاضيه وحَاضره ، ولكن هيْهَات أن تموت الشجرة ، وقد غارت جُذورها في الأعماق ، وهيهات أن يَعرِفَ الـــــــــجُبن طريقه إلى الأحرار ، وقد رَضَعوُا حَليب الوطنية الَحــقَّة مع حليب أمهاتهم ، وعَرفوا فِيمَا عَرَفُوا، أن الموت أهْوَنُ من أن تُدَاس الكرامةُ والعزةُ والأنفة ُ، فَزادهم ما حصل لعَواَئلهم وأولادهم َووَالديهم بَذْلا وعَطاء ، وظَلُوا ثاَبِتين ولَقـــــــُــــــوا تأييدَ ربهم لهم في باقي أيامهم الخالدات ، حتى لاقُوا الله وهو عنهم راضٍ ، ونحسبهم أبطالا شُجعانا مخــــــَّـــــــلدون في الرِضوان .
و أشرقت شمسُ الصباح على جزائرنا وُدحـــــــِــــــــر ذاك النمرود الفَرنسي الغاشم البَاغي وتقطَّعت أسبابه ، وما تبقَّى من شِرذمته لاذت بالفرار، واستراح الجميع وعاد الأملُ والرجاءُ والإخاءُ والصفاء إلى حياة الناس ، وأخذت الأشياءُ تعرفُ مسلك التواجُد والتَكَدُس ، وجاءتنا المدنيةُ الجديدةُ ونحن عنها غُرَباء، فَبـــــــــــــــــُـــــهِرناَ بصَنَائعها وِبمَبَاهِجهاـ وتــِـــــــهْناَ بين دُروُبِها ومَحَطاتها ، وأنْسَاناَ البريقُ ، أن نُحافظ على مَوْرُوث الأجداد والأباء ، وحتى رُحـــــــــــــــــنا نُطبل مع المطبلين ، ونتنصل مع المتنصلين ، ونتنكر لسلف أمتنا الخالــــــــــــــــــــــــد المتين .
فهل هي ذات الجزائر ، التي أرَتِ النجوم لذاك العربيد في وضح النهار؟ ، أم أن الجزائر بالأمس غير جزائر اليوم؟.
ماذا يقولُ عنا ابن باديس إن سجَّل حُضُورَه فِينا ، و أجَال ناِضريه بين أرجاء المَكان ، وتكشَّفت له الأشياء والأرزاء في الأنحاء ، وهو سَنَمٌٌٌ كبير ورُكن شامخ من أركان فخرنا وعلمنا وأصالتنا ، أيقول : أبارك أبنائــــــــــــــــــــي وأحفادي على هذا الصنيع ؟ ، أم يقول: تَبًا لكم جميعا ، فقد أخلفتم ضَـــــــــنِي ونقَضْتُم عهدي ومسختم كتابي ، فالأسطرُ ليست أسطري والبيان ليس بياني ، وعــِــــــضَتِي الواعية وَعَـــــتهْاَ قلوب غُلف ، وميثاقي الغليظ من العلم والشرف الغالي أضحى عـــــُرضة للدس والجس والحبـــــــس ، أ لهذا أفنيتُ شَبَاب عُمري وأبلِْيت عُودَ سَناَمي وأرْخَيْت للأيـــــــــــــــــــام سُدولي .
ربما نكون أجْدرَ بالثقة من هذا الخاطر المــــــُفزع ، بيد أننا لا نملك ُوسْعًا غير أن نستدعي باديسَ من قبره ، ونبعثه َمبْعَثهُ الأول قبل مبعَــــــــــــثِه الأخير ، لنُمَكِنـَــــهُ من تسجيل اعترافاته ، ولمَــْـــلَمَةِ أوراقه الضَائعة ، والحُكم على ورثة العهد وورثة الميثاق ، قبـــــــــــــــــــــل التخاصم عند رب الأرزاق ...
باديس يـــُــــــبعث من جديد ، ُيلملمُ ذاته ، يخرج من أجداث الرمس ، يَرى ويتفحص الأشياء ، يُعاينُ المواقعَ والَمواضعَ والمباضعَ ، يزور الأحبابَ والأصحاب ، تنقُلـــُــــــــهُ خُطاه إلى أحفاده الصِغار من ناشئة الوطن ، والحـُـــــرقة تملأ قلبه ، أليس هو القائــــــــــــــــــــــل :
يا نشء أنت رجاؤن
خذ للحياة سلاحه
وأرفع منار العدل والإ
وبك الصباح قد اقترب
وخض الخـــطوب و لا تهب
حسان وأصدم من غصب
ماذا يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرى ؟..
باديــــــــــــــــــــــــــــــــــــس يتكلم ...
باديس :
( ينهض يستند على عَصا ، يلبسُ برنو سه ، ويُحاول أن يخطو خطواته الأولى في المكان ، وتظهَرُ عليه سيماءُ العَياء ، يرى أمامه فتاة صغيرة تتوسط المكان ، يَتَجِه نحوها ، ويبادرها بالسؤال :
ــ يبدأ الحوار المسرحي بين الجد باديس والحفيدة :
باديس :
من أنتِ يا ابنتي ، ومن هؤلاء الحاضرين ؟
الحفيدة :
أنا حفيدتك يا جدي ، وهؤلاء هم خلفك ..
باديس :
وِلمَا اجتمعوا في هذا المكان ، وهل تركتهم فَرَ نْسَا دون أن تُضَيِّق عليهم الخِـــــناق ؟
الحفيدة :
إيـــــــــــه على فرنسا يا جدي ، فقد تَوارى نجمها ، وأفلت سَطوتها ، و أُزيحت عن بكرة أبيها من على ثـَــــــــــرى بلادنا .
باديس :
أوا تقولين صدقا يا ابنتي !.
الحفيدة :
نعم يا جدي ، هو عين الصدق .
باديس :
حمدا لله ، على الِمــــــــنة والنصر .
باديس :
( وسيماء البشر تملأ مُحياه ) قولي إذن يا ابنتي : لماذا اجتمع هؤلاء الناس في هذا المكان ؟
الحفيدة :
جاءوا ليُحيوا ذِكراك ، ويُجددوا العهد بعلمك وفضلك .
باديس :
أيُّ ذكرى يــــُــــحيون ؟
الحفيدة :
ذِكرى موتك ، وانتقالك إلى الرفيق الأعلى .
باديس :
وما علاقة موتي ، بتجديدكم العهد مع علمي وفضلي ؟
الحفيدة :
هكذا جرى الترتيبُ ، واعتـــــُـــمِل التسطير .
باديس :
( يبدو عليه الغيظ الشديد ) أليس الأحرى بكم يا ابنتي ، إن كنتم حقاً تُراعون فضلي وعلمي و أدبي ، أن تُجددوا العهد بي بتاريخ ميلادي ، لا بتاريخ وفاتي ، فوفاة الرجل إيذان بانقطاعه عن هذه الدنيا الفانية ، وارتفاعُ عطائــــــــــــــه وبذلــــــــــــــــه .
الحفيدة :
ولكن يا جدي روحك الطاهرة وآثرك الزكي ، يظــَــــلُ الترياق والبلسم الشافي العَافي من كل الأرزاء ، وما الجسد إلا تراب عَادَ إلى أصــــــــــــــــــــــله.
باديس :
ولكن يا ابنتي ، أليْسَ من اللباقةِ أن نُحيي ذكرى شخص بالرجوع إلى تاريخ ميلاده ، فالميلاد هو الشارة الحقيقية ، وهو الاعتراف الحق بالفضل الحق ، وهو التــــــــبركُ المحمود بأفضليات وخِــــــلال ومـُـــــثل الشخص.
الحفيدة :
( تقاطعه الحفيدة قائلة : نتبرك بك والله يا جدي !!.
باديس :
ألستم مسلمين ؟. ألا تحتفلون في أعيادكم الدينية بميلاد الحبيب محمد ( ص ) .
الحفيدة : َ
نحن مسلمون يا جدي ، ونحتفل بذكرى الحبيب محمد ( ص ) .
باديس :
ولماذا إذن لاتتخيرونَ يوم وفاة نبيكم محمد ( ص ) ، لتجعلوا منه عيدا ؟ ، ولماذا لا يتخير المسيحيون يوم وفاة المسيح عيسى ( ع ) حسب زعمهم ، ليجعلوا منه عيدا ؟، أم أن تصاريف أيامكم لاتنزل بالسوء إلا على شخص باديس ؟
الحفيدة :
حاشا والله يا جدي ، لا نملك في هذا الذي كان قرارا ، فالذي صار أننا جُـــــــبِلناَ على توقيركم وإكرامكم نزولا لحَثِ أساتذتنا عليكم ، أما أمرُ التأريخ فمتروك لأصحابِ التاريخ .
باديس :
ماذا يقول أساتذتكم عني ، وهل في كُتُبِكم ومُقَررَاتِكُم ما يــُـــــنِوه بفضلي وبذلي ؟.
الحفيدة :
أي نعم ، فيشهدُ الله أنهم جعلوا منكم زعماء إصلاحيين وقادة كبار للتغيير ، قـَـــــــــــلَّ أن َيجوُد الزمان بمثلهم ، وحفـَّــــظونا نصــــــــــــوصا ، وأَرُونا مواقفكم وتصويباتكم وتوجيهاتكم في كل أمر .
باديس :
ماذا تحفظين من نصوصي ومواقفي ؟ .
الحفيدة :
الكثير ، الكثير ، يا جدي !!. ، فقد درَّسنا أستاذنا في العربية ، الكثير منها ، ومن جملة ما قاله لنا : أنك عُدت من رحلتك إلى الحجاز ، فوجدت البلاد تسبح في دياجير ظــَـــــلام ، ولسان الأمة يجتهد فيه الأعداء أن يُحــَــــوِروه ويجعلوه فَرنسيًا ، والإسلام أخذ يَتوارى خلف سُجوف كثيفة من البِدع والانحراف ، والأعداء مُتكالبون على الأمة : المستعمرون بـِــــحديدهم ونارهم ، والرَجْعِيوُنَ بما أشاعوه بين العامة من خُرافات بإِرتمائهم في أحضان المستعمر ، فعَمَدتَ إلى تغيير حال الأمة ، وبـَـــــعْثِها من جديد ، وعَـــــزَمتَ العزم الأكيد أن تربي نشْأً إسلاميا جديدا كله طهارة ، تغرسُ فيه العربية الصحيحة وتدرسه مبادئ القرآن ، فيتخلق بأخلاق الإسلام ويتحلى بحميته ، فيغدوا بذلك سلاحا لا يَفَله الحديد والنار .
ــ اتجهتَ مع رهط من أصحابك الأتقياء الأصفياء إلى تأسيس ماعرف ــ بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ــ وكنتَ فيها العــَـلَم البَارزَ ، رُحتَ تزرع بين صفوف العامة أهداف وشعار التأسيس ، الذي يَنـــُم عن إسلامية التَوَجُهْ وعربية اللسان وقُطرية المكان ، فلخَصْتها في قولك : [ الإسلام ديننا ، والعربية لغتنا ، والجزائر وطننا ] ، َنهضتَ تُقَارِعُ فُــــــلُولَ الطـُـــــرُقِيَة وتَجْتَثُهاَ من أصولها ، لَمــــــَّــا تبـــــَّين أنها تحمل ِإرثا سَقيما من الُخرافة والدَجَل ، أنشأتَ المدارسَ في الُمدن والقُرى ، ناديتَ بالأُخوةِ بين جميع المسلمين توحيدا لكلمتهم أمام الغاصبِ ، أنشأتَ الجرائدَ والمجلاتِ السَّيَارةِ ، التي كان لها الوقع الطيِّبُ على نفوس الجزائريين الشُرفاء ، وكان لبياناتها وبيانها أعظم النفع ، اشتهرتَ بمواقِفِكَ الثابتة والصلدة في الدفاع عن الجزائر والإسلام ، في المُنتديات والمحَافل الرسمية ، كنتَ رافضاً لِماَ عُرِفَ بِفِكَْرةِ الاندماج أو التزاوج الفرنسي الجزائري، وكنت تُؤمن بفكرة الثورة ، وقد حفِظ لك التاريخ قولتك الشهيرة : ( والله ، لو وجدتُ عشرةً من عقلاء الأمة الجزائرية ، يوافقونني على إعلان الثورة لأعلنتها) ، أُصيبتَ بمرضٍ خبيث ، فلم تكترث لِحَالِ الجسدِ الفاني ، بل كانتْ ُهمومُ بلدك هي التي تؤرقُ مضجعَك ، أفنيتَ أيامكَ ولياليكَ في التدريسِ والتعليمِ والوعظِ والإرشادِ ، حتى اللحظةِ الأخيرةِ من عمركَ ، وكنتَ ترددُ دومًا : فإذا هلكتُ فصيحتي ... تحيا الجزائرُ والعرب .
باديس :
( محركا رأسه ) : أتعرفين كل هذا عني يا ابنتي ؟ .
الحفيدة :
وأكثر يا جدي .
باديس :
خَبــــــِّـــــــريني عنكم يا ابنتي ، وعن حال الجزائر الجديدة ، أمَا تـَـــــزال طَيِّبةَ الأعْرَافِ ، ُحلْوة المَعْشَرِ ؟ .
الحفيدة :
أما عن حالنا نحن الحفدة ، فقد ألـــــَزمنا أنفسَنا أن نَشِب عن الطـــُـــوقِ ، وأن نكون الحُداة الــــُوعاة ِلماَ نقرأ ونحفظ من إرثكم الزاهر ، أما عن حال الجزائر ، فَحاَلُهَا كحال بلاد العـــُـــــــــــــرب والإسلام ، أصبحنا لُقمَة سائغة بيد أعدائنا ، تتقاذفنا قِوَى الشَّرِ والطُغْيانِ ذات اليمين وذات الشمال ، نَسْتَجْدِي الرغيفَ ، ونحن أصحابُ الرغيف ، نَطلبُ الصَفْحَ والسماحَ ، ونحن المظلومين الصِحاح ، نَبغي الحضارة ولم نسلك مَسالكها ، نتدرجُ في طلبِ المنافعِ من الغاياتِ ، وإنْ تقاضَاناَ إلى ذلكَ إهدارُ ماءِ الوجه وتَضْييعُ الأماناتِ ، ضاعتْ في أُمَةِ العـــــُرب والإسلام النَخْوَة الصحيحة و الَمجْدُ التليد ، ونحن أصحاب العِزِ والفخر العتيد .
كنا أُسُودا يــَــــهابُنا القاصي قبل الداني ، وَصِرْناَ ــ يا جدي ــ أَجْبَنَ مِنْ وَائـــــِـــــــــــــــــل.
باديس :
يكفيني ما سمعتُ ياابنتي .
الحفيدة :
خَفـــِف عنك وَقْع المُصاب ، يا جدي .
باديس :
لا أرى لي بين الناس مكان ، ولا أتمنى هذه الحال الُمشينة لأُمَتي وأمَة الإسلام ، وأحْتَسِبُ أمْرَ الَهوَان و الـــِذلَةِ إلى صاحب التصريف ، فهو القادر تعالى على كل تكليف ، أما عَنكِ ياابنتي فقد أثلجتِ صَدري ، وأرحتِ بــَــــــالي ، وأعَـــــدْتــِــِني إلى فـُــــتُـــــــوَتي الأولى أيام كنت على الَحقِ أذُودُ .
ـــ ولِلَأمــَـــــــانةَ ــ ابنتي ــ أنْقُليِ عن جَدِكِ الشيخ ، السَلام الَحار والتحيةَ الخالصةَ إلى أستاذكِ في العربية ، وقُولي له : باركَ الله لك هذا الصنيع ، ودُمــــتَ وأمثالكَ أعواناً للعربيةِ الصحيحةِ السليمةِ ، وأثــــَـــابني وأثابكم الله جميعًا بعُقبى الدار ، وأَقــْــــــــــــــــــــــرِئيِ الحَاضِرينَ عَنِي السَلام ، وقولي لهم : الاحتفال بِعيد ذِكرى الشيخ باديس ، لا يكون في السادس عشــــــــــــر من أبريل ، بل اجْعَلوُه في الرابع من ديسمبر من كل عــــــَـــــــــــام ... وداعًا ــ وداعًا ــ يا ابنتي ...
الحفيدة :
طابَ مَثواكَ جدي ، ولقاؤناَ ــ بإذن الله ــ في دار الخُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلْد .
ــ الحفيدة :
( تخاطب الحاضرين ) : فيا أحفاد باديس ، ويا وعد أمتنا الصادق ، ويا جيل النصر والتحدي ، ويا شيوخنا الكبار ومربينا الأجــــــلاء ، سنعاهدكم بأن نكون الأمل الوضَّاح ، وَنخُطَ مسارا وهَّاجا ، تتفيأ ظله أمتنا ، التي ُنمنيها بالخير ــ كل الخير ــ ، ونُجهِد في البذل وفي العطاء ، حتى نُمَكنها من بُلوغ الغايات وإدراك المقاصد النافعـــــــــــــــــــــــــــــات ...
ــ فالجزائـــــــــــــر ، هذه الأم التي أرضعتنا حليبها ، ونتشرف بالانتساب إليها ، والدفاع عن عِزتها وكرامتها وكيانها ، وَكُل ما يتصل بماضيها وحاضرها ، ونَزْهو زَهْونا الكبير ونحن نستحضر معا أمجاد ومآثر أمتنا ، ونجعلها بيننا مثارا للتقليد المحبب ، ولا نغالي إن قلنا : للتقديس المـُـــــــــــــــــــــــــرغَّب .
فهذي الجزائر يا أحباءنا الصغار ، ويا شيوخنا الكبار ، تفتح قلبها وذراعيها للجميع ، ولا تحمل الضغينة لأحَــــــــــــــــد ، مهما أسأنا إليها ، ومهما كنا عاقين لأمنا ، فالأم تحنوا على أبنائها ، ولا تُضمر السوء لهم ، بل تبيت لياليها تتفقد الجميع ، ولا يَغمط لها جفن ، حتى ينعم جميع الحاضرين بالراحة والسكينة والهدوء التـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام .
ــــ فتتحسَسُّوا معنا وقع هذه الكلمـــــــــــات المعبرة ، وغنوا لجزائر الأمل ، جــــــــــــــــــــــــــــزائر الشهداء والأبــــــــــــــــطال ...
فاقرأو محطات هذا الحــــــــوار وأحكموا :
[ الراوي ] :
يبدأ الراوي في سرد تاريخ الجزائر وإبراز محطاته الفاصلة ، قبل الحوار المسرحي ، الذي من خلاله يتم استدعاء ابن باديس من قبره ، وتمكينه من مكاشفة حال الأمة الآنية ، وقد استردت سيادتها وعزتها المسلوبة قسراــ آنفا ــ من قبل الغاشم الفرنسي ، ليرى ويعاين ويستطلع حال النشء الجديد الوريث لجيل باديس الجد .
ــ يُــــــحكى أن الوطن المسلوبَ ، قَضَى رَدْحًا من زَمَن وهو أسير النكبة والعار ، ومَضَى العُمْرُ وهو يصرُخ ويـَــــــئِنُ لقبضَةِ ذاك الجبار ، وتعالت أصواتُ العويل ، وتتابعت الصََرخات ، فحَمل الأبناء المعاول والفؤوس ، وشَحَذوها لساعة الحسم ، وتفَرقوا في الشِعَاب ، وترصَدوا الغاشم في كل الزوايا ولاحقوه حتى في التـــَــكــــــَايا ، وحَاولوا جاهدين استئصال شافة الفاسدين والباغين ، وقَبلهم المارقين ، وأنساهم َضيْق المجال الإجهازَ على بقية أبناء المُــندسين من شاكلة فلان وعلان ...
ــ وأخذت وتيرة التصعيد والتنفير تعرف طريقا في الصفوف ، وتوافد الأتباع وكثـُــــر الأصحاب ، وامتلاءت الساحات بالذائدين عن الِحمى والأعراض ، واستبسل الأحرار استبسال الحُسين في واقعة كر بلاء ، وخالد في يرموك الفخر ، و صلاح الدين في حِطِين العز وسعد في قادِسية المجد ، وكانت الجُولات الداميات ، المُفحمات لسَطوة المارد وعُتو العَاتي ، فأيَقن النمرود أن أوان دَق العُنق قد آن ، وأن القَيامة قد أِزفت ، فاستجمع هَياكله وعدَّ جُنده ، وأحْصى عَدَده ، وأطلق زفيره في الأرجاء ، أني هاهنا مِسكين جبان ، لا أقدر على مُقارعة جند الله في الميدان ، فأمِدوني يا حِلف البُغاة بأعوانكم وفِلذات أكبادكم ، وكُلَ من تثقون في ولائـِـــــه وعَطائه ، قبل أن تقتلع مَعَاوِلُ الاجتثاث رأسي ، وتُــــــعَلق على خِلاف أطرافي ، فإني ورب القدس شريد في هذي الديار ، هالك لا محالة ، إذا جَدَّ جِدُّ الوغى في كل الأمصار ، وسَـــــــــــــتُسمع أنـــــــَّـــــاتي العالية لفِيحاء الغَاب ، وتـُـــــــترك بقايا الجسد العاري لذواتِ الناب ، من وحوش وسباع وكلاب .
سُمعت الصرخات وعــَـــــويل الطلقات ، فجاءت زبَانية الموت إلى حتفها مـُـــــخَيرة ، وراحت تَصْقُلُ السيف ولا تدري أن الطعنات ووقع الضَربات هي َصنِيع ذات الحديد .
انتشر الأزلام في ساحات الميدان وعمــــــــَّروا المَكان قِيحًا وَصديدًا وآثام ، وأعْيَاهم الــــــجُبن أن يــــُـــــقارعوا الأسُود في مغَاور البُطولة والإقْـــــــدام ، فَركنوا إلى الصَغار وإلى الدنية من أفعال الصِغار، وعَادوا القُهْقَرى يُطاردون الِولدان والمُقعدون والمُقعدات ، من الذين سقط عنهم التكليف ، وخطَّ المَشيب على كواهلهم ثوبَه وعَجْزَه ، فأرُوهم الويلات ونـــَـــــكَّلوا بهم ، نِكايةً بالأبناء الأبطال الذين قهروهم في الوغى ، وحَتى يَضعــــُف المجاهد الِصنديد ، إذا ما تَرامى إلى مَسَامعه ، أن صِلته بالأحياء من أقربائه قد توارت ، وتلاشت أسماء أهله وناسه ، مِن على خارطة المكان والزمان ، و أزاحُوا كُلَّ عناصر مَاضيه وحَاضره ، ولكن هيْهَات أن تموت الشجرة ، وقد غارت جُذورها في الأعماق ، وهيهات أن يَعرِفَ الـــــــــجُبن طريقه إلى الأحرار ، وقد رَضَعوُا حَليب الوطنية الَحــقَّة مع حليب أمهاتهم ، وعَرفوا فِيمَا عَرَفُوا، أن الموت أهْوَنُ من أن تُدَاس الكرامةُ والعزةُ والأنفة ُ، فَزادهم ما حصل لعَواَئلهم وأولادهم َووَالديهم بَذْلا وعَطاء ، وظَلُوا ثاَبِتين ولَقـــــــُــــــوا تأييدَ ربهم لهم في باقي أيامهم الخالدات ، حتى لاقُوا الله وهو عنهم راضٍ ، ونحسبهم أبطالا شُجعانا مخــــــَّـــــــلدون في الرِضوان .
و أشرقت شمسُ الصباح على جزائرنا وُدحـــــــِــــــــر ذاك النمرود الفَرنسي الغاشم البَاغي وتقطَّعت أسبابه ، وما تبقَّى من شِرذمته لاذت بالفرار، واستراح الجميع وعاد الأملُ والرجاءُ والإخاءُ والصفاء إلى حياة الناس ، وأخذت الأشياءُ تعرفُ مسلك التواجُد والتَكَدُس ، وجاءتنا المدنيةُ الجديدةُ ونحن عنها غُرَباء، فَبـــــــــــــــــُـــــهِرناَ بصَنَائعها وِبمَبَاهِجهاـ وتــِـــــــهْناَ بين دُروُبِها ومَحَطاتها ، وأنْسَاناَ البريقُ ، أن نُحافظ على مَوْرُوث الأجداد والأباء ، وحتى رُحـــــــــــــــــنا نُطبل مع المطبلين ، ونتنصل مع المتنصلين ، ونتنكر لسلف أمتنا الخالــــــــــــــــــــــــد المتين .
فهل هي ذات الجزائر ، التي أرَتِ النجوم لذاك العربيد في وضح النهار؟ ، أم أن الجزائر بالأمس غير جزائر اليوم؟.
ماذا يقولُ عنا ابن باديس إن سجَّل حُضُورَه فِينا ، و أجَال ناِضريه بين أرجاء المَكان ، وتكشَّفت له الأشياء والأرزاء في الأنحاء ، وهو سَنَمٌٌٌ كبير ورُكن شامخ من أركان فخرنا وعلمنا وأصالتنا ، أيقول : أبارك أبنائــــــــــــــــــــي وأحفادي على هذا الصنيع ؟ ، أم يقول: تَبًا لكم جميعا ، فقد أخلفتم ضَـــــــــنِي ونقَضْتُم عهدي ومسختم كتابي ، فالأسطرُ ليست أسطري والبيان ليس بياني ، وعــِــــــضَتِي الواعية وَعَـــــتهْاَ قلوب غُلف ، وميثاقي الغليظ من العلم والشرف الغالي أضحى عـــــُرضة للدس والجس والحبـــــــس ، أ لهذا أفنيتُ شَبَاب عُمري وأبلِْيت عُودَ سَناَمي وأرْخَيْت للأيـــــــــــــــــــام سُدولي .
ربما نكون أجْدرَ بالثقة من هذا الخاطر المــــــُفزع ، بيد أننا لا نملك ُوسْعًا غير أن نستدعي باديسَ من قبره ، ونبعثه َمبْعَثهُ الأول قبل مبعَــــــــــــثِه الأخير ، لنُمَكِنـَــــهُ من تسجيل اعترافاته ، ولمَــْـــلَمَةِ أوراقه الضَائعة ، والحُكم على ورثة العهد وورثة الميثاق ، قبـــــــــــــــــــــل التخاصم عند رب الأرزاق ...
باديس يـــُــــــبعث من جديد ، ُيلملمُ ذاته ، يخرج من أجداث الرمس ، يَرى ويتفحص الأشياء ، يُعاينُ المواقعَ والَمواضعَ والمباضعَ ، يزور الأحبابَ والأصحاب ، تنقُلـــُــــــــهُ خُطاه إلى أحفاده الصِغار من ناشئة الوطن ، والحـُـــــرقة تملأ قلبه ، أليس هو القائــــــــــــــــــــــل :
يا نشء أنت رجاؤن
خذ للحياة سلاحه
وأرفع منار العدل والإ
وبك الصباح قد اقترب
وخض الخـــطوب و لا تهب
حسان وأصدم من غصب
ماذا يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرى ؟..
باديــــــــــــــــــــــــــــــــــــس يتكلم ...
باديس :
( ينهض يستند على عَصا ، يلبسُ برنو سه ، ويُحاول أن يخطو خطواته الأولى في المكان ، وتظهَرُ عليه سيماءُ العَياء ، يرى أمامه فتاة صغيرة تتوسط المكان ، يَتَجِه نحوها ، ويبادرها بالسؤال :
ــ يبدأ الحوار المسرحي بين الجد باديس والحفيدة :
باديس :
من أنتِ يا ابنتي ، ومن هؤلاء الحاضرين ؟
الحفيدة :
أنا حفيدتك يا جدي ، وهؤلاء هم خلفك ..
باديس :
وِلمَا اجتمعوا في هذا المكان ، وهل تركتهم فَرَ نْسَا دون أن تُضَيِّق عليهم الخِـــــناق ؟
الحفيدة :
إيـــــــــــه على فرنسا يا جدي ، فقد تَوارى نجمها ، وأفلت سَطوتها ، و أُزيحت عن بكرة أبيها من على ثـَــــــــــرى بلادنا .
باديس :
أوا تقولين صدقا يا ابنتي !.
الحفيدة :
نعم يا جدي ، هو عين الصدق .
باديس :
حمدا لله ، على الِمــــــــنة والنصر .
باديس :
( وسيماء البشر تملأ مُحياه ) قولي إذن يا ابنتي : لماذا اجتمع هؤلاء الناس في هذا المكان ؟
الحفيدة :
جاءوا ليُحيوا ذِكراك ، ويُجددوا العهد بعلمك وفضلك .
باديس :
أيُّ ذكرى يــــُــــحيون ؟
الحفيدة :
ذِكرى موتك ، وانتقالك إلى الرفيق الأعلى .
باديس :
وما علاقة موتي ، بتجديدكم العهد مع علمي وفضلي ؟
الحفيدة :
هكذا جرى الترتيبُ ، واعتـــــُـــمِل التسطير .
باديس :
( يبدو عليه الغيظ الشديد ) أليس الأحرى بكم يا ابنتي ، إن كنتم حقاً تُراعون فضلي وعلمي و أدبي ، أن تُجددوا العهد بي بتاريخ ميلادي ، لا بتاريخ وفاتي ، فوفاة الرجل إيذان بانقطاعه عن هذه الدنيا الفانية ، وارتفاعُ عطائــــــــــــــه وبذلــــــــــــــــه .
الحفيدة :
ولكن يا جدي روحك الطاهرة وآثرك الزكي ، يظــَــــلُ الترياق والبلسم الشافي العَافي من كل الأرزاء ، وما الجسد إلا تراب عَادَ إلى أصــــــــــــــــــــــله.
باديس :
ولكن يا ابنتي ، أليْسَ من اللباقةِ أن نُحيي ذكرى شخص بالرجوع إلى تاريخ ميلاده ، فالميلاد هو الشارة الحقيقية ، وهو الاعتراف الحق بالفضل الحق ، وهو التــــــــبركُ المحمود بأفضليات وخِــــــلال ومـُـــــثل الشخص.
الحفيدة :
( تقاطعه الحفيدة قائلة : نتبرك بك والله يا جدي !!.
باديس :
ألستم مسلمين ؟. ألا تحتفلون في أعيادكم الدينية بميلاد الحبيب محمد ( ص ) .
الحفيدة : َ
نحن مسلمون يا جدي ، ونحتفل بذكرى الحبيب محمد ( ص ) .
باديس :
ولماذا إذن لاتتخيرونَ يوم وفاة نبيكم محمد ( ص ) ، لتجعلوا منه عيدا ؟ ، ولماذا لا يتخير المسيحيون يوم وفاة المسيح عيسى ( ع ) حسب زعمهم ، ليجعلوا منه عيدا ؟، أم أن تصاريف أيامكم لاتنزل بالسوء إلا على شخص باديس ؟
الحفيدة :
حاشا والله يا جدي ، لا نملك في هذا الذي كان قرارا ، فالذي صار أننا جُـــــــبِلناَ على توقيركم وإكرامكم نزولا لحَثِ أساتذتنا عليكم ، أما أمرُ التأريخ فمتروك لأصحابِ التاريخ .
باديس :
ماذا يقول أساتذتكم عني ، وهل في كُتُبِكم ومُقَررَاتِكُم ما يــُـــــنِوه بفضلي وبذلي ؟.
الحفيدة :
أي نعم ، فيشهدُ الله أنهم جعلوا منكم زعماء إصلاحيين وقادة كبار للتغيير ، قـَـــــــــــلَّ أن َيجوُد الزمان بمثلهم ، وحفـَّــــظونا نصــــــــــــوصا ، وأَرُونا مواقفكم وتصويباتكم وتوجيهاتكم في كل أمر .
باديس :
ماذا تحفظين من نصوصي ومواقفي ؟ .
الحفيدة :
الكثير ، الكثير ، يا جدي !!. ، فقد درَّسنا أستاذنا في العربية ، الكثير منها ، ومن جملة ما قاله لنا : أنك عُدت من رحلتك إلى الحجاز ، فوجدت البلاد تسبح في دياجير ظــَـــــلام ، ولسان الأمة يجتهد فيه الأعداء أن يُحــَــــوِروه ويجعلوه فَرنسيًا ، والإسلام أخذ يَتوارى خلف سُجوف كثيفة من البِدع والانحراف ، والأعداء مُتكالبون على الأمة : المستعمرون بـِــــحديدهم ونارهم ، والرَجْعِيوُنَ بما أشاعوه بين العامة من خُرافات بإِرتمائهم في أحضان المستعمر ، فعَمَدتَ إلى تغيير حال الأمة ، وبـَـــــعْثِها من جديد ، وعَـــــزَمتَ العزم الأكيد أن تربي نشْأً إسلاميا جديدا كله طهارة ، تغرسُ فيه العربية الصحيحة وتدرسه مبادئ القرآن ، فيتخلق بأخلاق الإسلام ويتحلى بحميته ، فيغدوا بذلك سلاحا لا يَفَله الحديد والنار .
ــ اتجهتَ مع رهط من أصحابك الأتقياء الأصفياء إلى تأسيس ماعرف ــ بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ــ وكنتَ فيها العــَـلَم البَارزَ ، رُحتَ تزرع بين صفوف العامة أهداف وشعار التأسيس ، الذي يَنـــُم عن إسلامية التَوَجُهْ وعربية اللسان وقُطرية المكان ، فلخَصْتها في قولك : [ الإسلام ديننا ، والعربية لغتنا ، والجزائر وطننا ] ، َنهضتَ تُقَارِعُ فُــــــلُولَ الطـُـــــرُقِيَة وتَجْتَثُهاَ من أصولها ، لَمــــــَّــا تبـــــَّين أنها تحمل ِإرثا سَقيما من الُخرافة والدَجَل ، أنشأتَ المدارسَ في الُمدن والقُرى ، ناديتَ بالأُخوةِ بين جميع المسلمين توحيدا لكلمتهم أمام الغاصبِ ، أنشأتَ الجرائدَ والمجلاتِ السَّيَارةِ ، التي كان لها الوقع الطيِّبُ على نفوس الجزائريين الشُرفاء ، وكان لبياناتها وبيانها أعظم النفع ، اشتهرتَ بمواقِفِكَ الثابتة والصلدة في الدفاع عن الجزائر والإسلام ، في المُنتديات والمحَافل الرسمية ، كنتَ رافضاً لِماَ عُرِفَ بِفِكَْرةِ الاندماج أو التزاوج الفرنسي الجزائري، وكنت تُؤمن بفكرة الثورة ، وقد حفِظ لك التاريخ قولتك الشهيرة : ( والله ، لو وجدتُ عشرةً من عقلاء الأمة الجزائرية ، يوافقونني على إعلان الثورة لأعلنتها) ، أُصيبتَ بمرضٍ خبيث ، فلم تكترث لِحَالِ الجسدِ الفاني ، بل كانتْ ُهمومُ بلدك هي التي تؤرقُ مضجعَك ، أفنيتَ أيامكَ ولياليكَ في التدريسِ والتعليمِ والوعظِ والإرشادِ ، حتى اللحظةِ الأخيرةِ من عمركَ ، وكنتَ ترددُ دومًا : فإذا هلكتُ فصيحتي ... تحيا الجزائرُ والعرب .
باديس :
( محركا رأسه ) : أتعرفين كل هذا عني يا ابنتي ؟ .
الحفيدة :
وأكثر يا جدي .
باديس :
خَبــــــِّـــــــريني عنكم يا ابنتي ، وعن حال الجزائر الجديدة ، أمَا تـَـــــزال طَيِّبةَ الأعْرَافِ ، ُحلْوة المَعْشَرِ ؟ .
الحفيدة :
أما عن حالنا نحن الحفدة ، فقد ألـــــَزمنا أنفسَنا أن نَشِب عن الطـــُـــوقِ ، وأن نكون الحُداة الــــُوعاة ِلماَ نقرأ ونحفظ من إرثكم الزاهر ، أما عن حال الجزائر ، فَحاَلُهَا كحال بلاد العـــُـــــــــــــرب والإسلام ، أصبحنا لُقمَة سائغة بيد أعدائنا ، تتقاذفنا قِوَى الشَّرِ والطُغْيانِ ذات اليمين وذات الشمال ، نَسْتَجْدِي الرغيفَ ، ونحن أصحابُ الرغيف ، نَطلبُ الصَفْحَ والسماحَ ، ونحن المظلومين الصِحاح ، نَبغي الحضارة ولم نسلك مَسالكها ، نتدرجُ في طلبِ المنافعِ من الغاياتِ ، وإنْ تقاضَاناَ إلى ذلكَ إهدارُ ماءِ الوجه وتَضْييعُ الأماناتِ ، ضاعتْ في أُمَةِ العـــــُرب والإسلام النَخْوَة الصحيحة و الَمجْدُ التليد ، ونحن أصحاب العِزِ والفخر العتيد .
كنا أُسُودا يــَــــهابُنا القاصي قبل الداني ، وَصِرْناَ ــ يا جدي ــ أَجْبَنَ مِنْ وَائـــــِـــــــــــــــــل.
باديس :
يكفيني ما سمعتُ ياابنتي .
الحفيدة :
خَفـــِف عنك وَقْع المُصاب ، يا جدي .
باديس :
لا أرى لي بين الناس مكان ، ولا أتمنى هذه الحال الُمشينة لأُمَتي وأمَة الإسلام ، وأحْتَسِبُ أمْرَ الَهوَان و الـــِذلَةِ إلى صاحب التصريف ، فهو القادر تعالى على كل تكليف ، أما عَنكِ ياابنتي فقد أثلجتِ صَدري ، وأرحتِ بــَــــــالي ، وأعَـــــدْتــِــِني إلى فـُــــتُـــــــوَتي الأولى أيام كنت على الَحقِ أذُودُ .
ـــ ولِلَأمــَـــــــانةَ ــ ابنتي ــ أنْقُليِ عن جَدِكِ الشيخ ، السَلام الَحار والتحيةَ الخالصةَ إلى أستاذكِ في العربية ، وقُولي له : باركَ الله لك هذا الصنيع ، ودُمــــتَ وأمثالكَ أعواناً للعربيةِ الصحيحةِ السليمةِ ، وأثــــَـــابني وأثابكم الله جميعًا بعُقبى الدار ، وأَقــْــــــــــــــــــــــرِئيِ الحَاضِرينَ عَنِي السَلام ، وقولي لهم : الاحتفال بِعيد ذِكرى الشيخ باديس ، لا يكون في السادس عشــــــــــــر من أبريل ، بل اجْعَلوُه في الرابع من ديسمبر من كل عــــــَـــــــــــام ... وداعًا ــ وداعًا ــ يا ابنتي ...
الحفيدة :
طابَ مَثواكَ جدي ، ولقاؤناَ ــ بإذن الله ــ في دار الخُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلْد .
ــ الحفيدة :
( تخاطب الحاضرين ) : فيا أحفاد باديس ، ويا وعد أمتنا الصادق ، ويا جيل النصر والتحدي ، ويا شيوخنا الكبار ومربينا الأجــــــلاء ، سنعاهدكم بأن نكون الأمل الوضَّاح ، وَنخُطَ مسارا وهَّاجا ، تتفيأ ظله أمتنا ، التي ُنمنيها بالخير ــ كل الخير ــ ، ونُجهِد في البذل وفي العطاء ، حتى نُمَكنها من بُلوغ الغايات وإدراك المقاصد النافعـــــــــــــــــــــــــــــات ...
ــ فالجزائـــــــــــــر ، هذه الأم التي أرضعتنا حليبها ، ونتشرف بالانتساب إليها ، والدفاع عن عِزتها وكرامتها وكيانها ، وَكُل ما يتصل بماضيها وحاضرها ، ونَزْهو زَهْونا الكبير ونحن نستحضر معا أمجاد ومآثر أمتنا ، ونجعلها بيننا مثارا للتقليد المحبب ، ولا نغالي إن قلنا : للتقديس المـُـــــــــــــــــــــــــرغَّب .
فهذي الجزائر يا أحباءنا الصغار ، ويا شيوخنا الكبار ، تفتح قلبها وذراعيها للجميع ، ولا تحمل الضغينة لأحَــــــــــــــــد ، مهما أسأنا إليها ، ومهما كنا عاقين لأمنا ، فالأم تحنوا على أبنائها ، ولا تُضمر السوء لهم ، بل تبيت لياليها تتفقد الجميع ، ولا يَغمط لها جفن ، حتى ينعم جميع الحاضرين بالراحة والسكينة والهدوء التـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام .
ــــ فتتحسَسُّوا معنا وقع هذه الكلمـــــــــــات المعبرة ، وغنوا لجزائر الأمل ، جــــــــــــــــــــــــــــزائر الشهداء والأبــــــــــــــــطال ...